فصل: تفسير الآيات رقم (7- 12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

مختلفون بشدة إنكارهم أمرَ البعث، ولالتباسِ ذلك عليهم، وكثرةِ مُساءَلتهم عنه، وكثرة مراجعتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في معناه‏.‏

تكرَّر من الله إنزال أمرِ البعث، وكم استدلَّ عليهم في حوازِه بوجوهٍ من الأمثلة‏.‏‏.‏ فهذا من ذلك، يقول‏:‏ ‏{‏عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ‏}‏‏:‏ عن الخبر العظيم ‏{‏الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ‏}‏ قال الله تعالى على جهة الاحتجاج عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً‏}‏‏.‏

ذَلَّلْناها لهم حتى سَكًنوها‏.‏

‏{‏وَالجِبَالَ أَوْتَاداً‏}‏‏.‏

أوتاداً للأرضِ حتى تَمِيدَ بِهم‏.‏

‏{‏وَخََلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً‏}‏‏.‏

ذَكَراً وأنثى، وحَسَناً وقبيحاً *** وغير ذلك‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً‏}‏‏.‏

أي راحةً لكم، لتَنْقَطِعوا عن حركاتِكم التي تعبتم بها في نهاركم‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً‏}‏‏.‏

تُغَطَّي ظُلمتُه كلَّ شيءٍ فتسكنوا فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 23‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً‏}‏‏.‏

أي وقتَ معاشِكم‏.‏

‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً‏}‏‏.‏

أي سبع سموات‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً‏}‏‏.‏

أي الشمس، جعلناها سراجاً وقَّاداً مشتعلاً‏.‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً‏}‏‏.‏

‏{‏الْمُعْصِرَاتِ‏}‏ الرياح التي تعْصِرُ السحاب‏.‏

‏{‏مَآءً ثَجَّاجاً‏}‏ مطراً صَبَّاباً‏.‏

‏{‏لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً‏}‏‏.‏

‏{‏حَبّاً‏}‏ كالحنطة والشعير، ‏{‏وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً‏}‏ بساتين يَلْتَفُّ بعضُها ببعض‏.‏

وإذا قد علمتم ذلك فهلاَّ علمتم أنِّي قادرٌ على أَنْ أُعيدَ الخَلْقَ وأُقيمَ القيامة‏؟‏

فبعدَ أن عَدَّ عليهم بعضَ وجوهِ إنعامه، وتمكينهم من منافعهم *** قال‏:‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً‏}‏‏.‏

مضى معناه‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتأَْتُونَ أَفْوَاجاً‏}‏‏.‏

أي في ذلك اليوم تأتون زُمراً وجماعاتٍ‏.‏

‏{‏وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تَشَقَّقَتْ وانفطرت‏.‏

‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً‏}‏‏.‏

أي كالسراب‏.‏

‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً‏}‏‏.‏

أي ممراً‏.‏ ويقال‏:‏ ذات ارتقابٍ لأهلها‏.‏

‏{‏لِّلطَّاغِينَ مَئَاباً‏}‏‏.‏

أي مرجعاً‏.‏

‏{‏لَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً‏}‏‏.‏

أي دهوراً، والمعنى مُؤَبَّدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 36‏]‏

‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً ولا شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً‏}‏‏.‏

مضى معناه‏.‏ ثم يُعَذَّبون بعد ذلك بأنواعٍ أُخَرَ من العذاب‏.‏

‏{‏جَزَآءً وِفَاقاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ جُوزُوا على فرق أعمالهم‏.‏ ويقال‏:‏ على وفق ما سَبَقَ به التقديرُ، وجرى به الحكم‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً‏}‏‏.‏

لا يؤمنون فيرجعون الثواب ويخافون العقاب‏.‏

‏{‏وَكَذَّبُواْ بِئَايِاتِنَا كِذَّاباً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تكذيباً‏.‏

‏{‏وَكُلَّ شَئ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً‏}‏‏.‏

يأي‏:‏ كتبناه كتاباً، وعلمناه عِلْماً‏.‏

والمسبِّحُ الزاهدُ تسبيحَه، والمهجورُ البائسُ يحصي أيامَ هجرانه، والذي هو صاحب وصالٍ لا يتفرَّغ من وَصْلِه إلى تذكُّرِ أيامه في العدد، أو الطول والقصر‏.‏

والملائكة يُحصون زلاَّت العاصين، ويكتبونها في صحائفهم‏.‏ والحق سبحانه يقول‏:‏

‏{‏وَكُلَّ شَئ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً‏}‏ فكما أحصى زَلاَّتٍ العاصين وطاعات المطيعين فكذلك أحْصَى أيامَ هجرانِ المهجورين وَأيَامَ مِحَنِ الممتحَنين، وإِنَّ لهم في ذلك لَسَلْوَةً وَنَفَساً‏:‏

ثمانٍ قد مضيْنَ بلا تلاقٍ *** وما في الصبر فَضْلٌ عن ثمانٍ

وكم من أقوامٍ جاوزت أيامُ فترتهم الحدَّ‏!‏ وأَرْبَتْ أوقاتُ هجرانهم على الحَصْر‏!‏ قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِِلاَّ عَذَاباً‏}‏‏.‏

يا أيها المُنَعَمَّون في الجنة‏.‏‏.‏ افرحوا وتمتعوا فلن نزيدكم إلا ثواباً‏.‏

أيها الكافرون‏.‏‏.‏ احترقوا في النار‏.‏‏.‏ ولن نزيدكم إلا عذاباً‏.‏

ويا أيها المطيعون‏.‏‏.‏ افرحوا وارتعوا فلن نزيدكم إلا فَضْلاً على فَضْل‏.‏

يا أيها المساكين‏.‏‏.‏ ابكوا واجزعوا فلن نزيدَكم إلاَّ عَزْلاً على عَزْل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً‏}‏‏.‏

مُسَلَّمٌ للمتقين ما وعدناهم به‏.‏‏.‏ فهنيئاً لهم ما أَعددنا لهم من الفوزِ بالبُغْية‏.‏ والظّفَرِ بالسُّؤَالِ والمُنْيَة‏:‏ من حدائق وأَعنابٍ، ومن كواعبَ أَترابٍ وغير ذلك‏.‏

فيا أيها المُهَيَّمون المتَيَّمون هنيئاً لكم ما أنتم فيه اليومَ في سبيل مولاكم من تجرُّدِ وفقر، وما كلَّفَكم به من توكل وصبر، وما تجرعتم من صَدٍّ وهجر‏.‏

أحرى الملابسِ ما تَلْقَى الحبيبَ به *** يومَ التزاورِ في الثوب الذي خَلَعا

قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا‏}‏ آذانُهم مصونةٌ عن سماع الأغيار، وأبصارهم محمفوظةٌ عن ملاحظة الرسوم والآثار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً‏}‏‏.‏

وكيف تكون للمُكَوَّن المخلوقِ الفقيرِ المسكينِ مُكْنَةٌ أَنْ يملك منه خطاباً‏؟‏ أو يتنفَّسَ بدونه نَفَساً‏؟‏ كلاّ‏.‏‏.‏ بل هو اللَّهُ الواحدُ الجبَّار‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً‏}‏‏.‏

إنما تظهر الهيبةُ على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم، وأمَّا الخواص وأصحابُ الحضور فَهُم أبداً بمشهدِ العِزِّ بنعت الهيبة، لا نَفَسَ لهم ولا راحة؛ أحاط بهم سرادُقها واستولت عليهم حقائها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَئَاباً‏}‏‏.‏

هم بمشهد الحقِّ، والحَكَمُ عليهم الحقُّ، حكم عليهم بالحق، وهم مجذوبون بالحقِّ للحقِّ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً‏}‏‏.‏

وهو عند أهلِ الغفلة بعيدٌ، ولكنَّه في التحقيق قريبٌ‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَبَا‏}‏‏.‏

مضوا في ذُلِّ الاختيار والتعنِّي، وبُعِثوا في حسرة التمنِّي، ولو أنهم رضوا بالتقدير لتخلَّصوا عن التمنِّي‏.‏

سورة النازعات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً‏}‏‏.‏

أي الملائكة؛ تنزعُ أرواحَ الكفَّارِ من أبدانهم‏.‏

‏{‏غَرْقاً‏}‏‏:‏ أي إغراقاً كالمُغرِق في قَوْسِه‏.‏

ويقال‏:‏ هي النجوم تنزع من مكانٍ إلى مكان‏.‏

‏{‏وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً‏}‏‏.‏

هي أنفس المؤمنين تَنْشَط للخروج عند الموت‏.‏

ويقال‏:‏ هي الملائكة تنشِطُ أرواحَ الكفار، وتنزعها فيشتدُّ عليهم خروجُها‏.‏

ويقال‏:‏ هي الوحوش تنشط من بلدٍ إلى بلدِ‏.‏

ويقال‏:‏ هي الأوهاق‏.‏

ويقال‏:‏ هي النجوم تنشط من المشارق إلى المغارب ومن المغارب إلى المشارق‏.‏

‏{‏وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً‏}‏‏.‏

الملائكة تسبح في نزولها‏.‏

ويقال‏:‏ هي النجوم تسبح في أفلاكها‏.‏

ويقال‏:‏ هي السفن في البحار‏.‏

ويقال‏:‏ هي أرواح المؤمنين تخرج بسهولة لشوقها إلى الله‏.‏

‏{‏فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً‏}‏‏.‏

الملائكة يسبقون إلى الخير والبركة، أو لأنها تسبق الشياطين عند نزول الوحي، أو لأنها تسبق بأرواح الكفار إلى النار‏.‏

ويقال‏:‏ هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في الأفول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 18‏]‏

‏{‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏16‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏17‏)‏ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً‏}‏‏.‏

الملائكة تنزل بالحرام والحلال‏.‏

ويقال‏:‏ جبريل بالوحي، وميكائيل بالقَطْرِ والنبات، وإسرافيل بالصُّور، ومََلَكُ الموت يَقْبِضِ الأرواح‏.‏‏.‏ عليهم السلام‏.‏

وجوابُ القَسم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ‏}‏‏.‏

تتحرك الأرضُ حركةً شديدة‏.‏

‏{‏تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ‏}‏‏.‏

النفخة الأولى في الصُّور‏.‏ وقيل‏:‏ الراجفة النفخة الأولى والرادفة النفخة الثانية‏.‏ ‏{‏قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ‏}‏‏.‏

خائفة‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ أَءِنَا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ‏}‏‏.‏

أي إلى أول أمرِنا وحالنا، يعني أئِذا متنا نبعث ونُرَدُّ إلى الدنيا ‏(‏ونمشي على الأرض بأقدامنا‏)‏‏؟‏‏.‏ قالوه على جهة الاستبعاد‏.‏

‏{‏أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً‏}‏‏.‏

أي بالية‏.‏

‏{‏قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ‏}‏‏.‏

رَجْعَةٌ ذات خسران ‏(‏ما دام المصيرُ إلى النار‏)‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ‏}‏‏.‏

جاء في التفسير إنها أرض المحشر، ويقال‏:‏ إنها أرضٌ بيضاء لم يُعْصَ الله فيها‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الساهرة‏}‏ نَفْخَةُ الصُّور تذهب بنومهم وتسهرهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى‏}‏‏.‏

أي الأرض المطهرة المباركة‏.‏ ‏{‏طُوًى‏}‏ اسم الوادي هناك‏.‏

‏{‏اذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى‏}‏‏.‏ قلنا له‏:‏ ‏{‏اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى‏}‏، فقل له‏:‏ هل يقع لك أَنْ تؤمِنَ وتتطهر من ذنوبك‏.‏

وفي التفسير‏:‏ لو قُلْتَ لا إله إلا الله فَلَكَ مُلْكٌ لا يزول، وشبابك لا يهرم، وتعيش أربعمائة سنةٍ في السرورة والنعمة‏.‏‏.‏ ثم لك الجنة في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ‏(‏19‏)‏ فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏}‏‏.‏

أُقَرِّرُ لك بالآيات صِحَّةَ ما أقول، وأعرفك صحة الدين‏.‏‏.‏ فهل لك ذلك‏؟‏ فلم يَقْبَلْ‏.‏

ويقال‏:‏ أظهر له كل هذا التلطُّفَ ولكنه في خَفِيِّ سِرِّه وواجبِ مَكْرِه به أنه صَرَفَ قلبَه عن إِرداة هذه الأشياء، وإيثار مرادِه على مراد ربِّه، وألَقى في قلبه الامتناعَ، وتَرْكَ قبولِ النُّصْح‏.‏‏.‏ وأيُّ قلبٍ يسمع هذا الخطاب فلا ينقطع لعذوبه هذا اللفظ‏؟‏ وأيَّ كَبِدٍ تعرف هذا فلا تَتَشَقَّقُ لصعوبة هذا المكر‏؟‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَرَاهُ الأُيَةَ الْكُبْرَى‏}‏‏.‏

جاء في التفسير‏:‏ هي إخراجُ يده بيضاءَ لها شعاعٌ كشعاع الشمس‏.‏ فقال فرعون‏:‏ حتى أشاوِرَ هامانَ، فشاوَرَه، فقال له هامان‏:‏ أبعد ما كُنْتَ ربًّا تكون مربوباً‏؟‏‏!‏ وبعد ما كنت مَلِكاً تكون مملوكاً‏؟‏

فكذَّبَ فرعونُ عند ذلك، وعَصَى، وجَمَعَ السَّحَرَة، ونادى‏:‏

‏{‏فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ‏(‏24‏)‏‏}‏

ويقال‏:‏ إنَّ إبليس لمَّا سَمِع هذا الخطابَ فرَّ وقال‏:‏ لا أطيق هذا‏!‏ ويقال‏:‏ قال‏:‏ أنا ادَّعَيْتُ الخيرية على آدم فلقيت ما لقيت‏.‏‏.‏ وهذا يقول‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏26‏)‏ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى‏}‏‏.‏

أي في إهلاكنا فرعون لَعِبْرَةً لمن يخشى‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا‏}‏‏.‏

‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ جعلها مستوية‏.‏ ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ أظلم ليلها‏.‏ ‏{‏ضُحَاهَا‏}‏ ضوؤُها ونهارها‏.‏ ‏{‏دَحَاهَآ‏}‏ بَسَطَها وَمدَّها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا‏}‏‏.‏

أخرج من الأرض العيون المتفجرة بالماء، وأخرج النبات‏.‏‏.‏

‏{‏وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا‏}‏‏.‏

أَثْبَتَها أوتاداً للأرض‏.‏

‏{‏مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ‏}‏‏.‏

أي أخرجنا النبات ليكون لكم به استمتاع، وكذلك لأَنعامِكم‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَآءَتِ الطَآمَّةُ الْكُبْرَى‏}‏‏.‏

الداهية العُظمى‏.‏‏.‏ وهي القيامة‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَنُ مَا سَعَى‏}‏‏.‏

وبرزت الجحيم لمن يرى، فأمَّا من طغى وكَفَرَ وآثر الحياة الدنيا فإنَّ الجحيمَ له المأوى والمُسْتَقَرُّ والمثوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 46‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِىَ المَأْوَى‏}‏‏.‏

‏{‏مَقَامَ رَبِّهِ‏}‏‏:‏ وقوفه غداً في محل الحساب‏.‏ ويقال‏:‏ إقبالُ الله عليه وأنَّه راءٍ له‏.‏‏.‏ وهذا عينُ المراقبة، والآخَر محلُّ المحاسبة‏.‏

‏{‏وَنَهَى النَّفْسَ عِنِ الْهَوَى‏}‏ أي لم يتابع هواه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا‏}‏‏.‏

أي متى تقوم‏؟‏

‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا‏}‏‏.‏

مِنْ أَين لك عِلْمُها ولم نعلمك ذلك‏.‏

‏{‏إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ‏}‏‏.‏

أي إنما يعلم ذلك ربُّكَ‏.‏

‏{‏إِنَّمَآ أَنتَ مُنِذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏}‏‏.‏

أي تخوِّف، فيقبل تخويفَك مَنْ يخشاها ويؤمن‏.‏

‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏‏.‏

كانهم يومَ يَرَوْن القيامة ‏{‏لَمْ يَلْبَثُواْ عِشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ فلشدة ما يرون تقل عندهم كثرةُ ما لبثوا تحت الأرض‏.‏

سورة عبس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏‏}‏

نَزَلَت في ابن أمِّ مكتوم، وكان ضريراً‏.‏‏.‏ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وكان عنده العباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف الجُمْحي- يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانَهما، فَكَرِه أَنْ يَقْطَعَ حديثَه معهما، فأعرض عن ابن أمِّ مكتوم، وعَبَسَ وَجْهُه، فأنزل اللَّهُ هذه الآية‏.‏

وجاء في التفسير‏:‏ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج على أثرِه، وأَمَرَ بطلبِه، وكان بعد ذلك يَبَرُّه ويُكْرِمُه، فاستخلفه على المدينة مرتين‏.‏

وجاء في التفسير‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لم يَعْبَسْ- بعد هذا- في وجهِ فقيرٍ قط، ولم يُعْرِضْ عنه‏.‏

ويقال‏:‏ في الخطاب لُطْفٌ *** وهو أنه لم يواجهه بل قالَه على الكناية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 8‏]‏

‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى‏}‏‏.‏

أي يتذكر بما يتعلم منك أو‏.‏

‏{‏أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى‏}‏‏.‏

أمَّا مَنْ استغنى عن نَفْسِه فإنه استغنى عن الله‏.‏

ويقال‏:‏ استغنى بما له فأنت له تصدَّى، أي تُقْبِلُ عليه بوجهك‏.‏

‏{‏وَمَا عَلَيْكَ‏}‏ فأنت لا تُؤَخَذُ بألا يتزكّى هو فإنما عليكَ البلاغ‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى‏}‏‏.‏

لطَلَبِ العِلْم، ويخشى الله فأنت عنه تَتَلَهَّى، وتتشاغل *** وهذا كله مِنْ قبيلِ العتاب معه لأَجْلِ الفقراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏كَلآَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ‏}‏‏.‏

القرآن تذكرة؛ فَمَنْ شاء الله أن يَذْكُرَه ذَكُرَه، ومَنْ شاء الله ألا يَذْكُرَه لم يُذَكِّرْه؛ أي بذلك جرى القضاءُ، فلا يكون إلا ما شاء اللَّهُ‏.‏

ويقال‏:‏ الكلامُ على جهة التهديد؛ ومعناه‏:‏ فَمَنْ أراد أن يذكره فليذكره، ومن شاء ألا يذكره فلا يذكره‏!‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَكَرَهُ‏}‏ ولم يقل «ذَكَرَها» لأنه أراد به القرآن‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ‏}‏‏.‏

أي صحف إبراهيم وموسى وما قبل ذلك، وفي اللوح المحفوظ‏.‏

‏{‏مَّرْفُعَةٍ مُّطَهَّرَةِ‏}‏‏.‏

مرفوعة في القَدْر والرتبة، مطهرة من التناقض والكذب‏.‏

‏{‏بِأَيْدِى سَفَرَةٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ الملائكة الكَتَبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 33‏]‏

‏{‏كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏كِرَامِ بَرَرَةٍ‏}‏‏.‏

كرام عند الله بَرَرَة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ‏}‏‏.‏

لُعِنَ الإنسان ما أعظم كُفْره‏!‏‏.‏‏.‏

‏{‏مِنْ أَىِّ شَئ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ‏}‏‏.‏

خَلَقَه وصَوَّرَه وقَدَّره أطواراً‏:‏ من نطفةٍ، ثم عَلَقَةٍ، ثم طوراً بعد طور‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ‏}‏‏.‏

يَسَّّرَ عليه السبيلَ في الخير والشرِّ، وألهمه كيف التصرُّف‏.‏

ويقال‏:‏ يَسَّرَ عليه الخروجَ من بطن أُمِّه يخرج أولاً رأسه منكوساً‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ جعل له قَبْراً لئلا تفترِسَه السِّباعُ والطيورُ ولئلا يفتضح‏.‏

‏{‏ثُمَّ إذَا شَآءَ أَنشَرَهُ‏}‏‏.‏

بَعَثَه من قبره‏.‏

‏{‏كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ عصى وخالَفَ ما أُمِرَ به‏.‏

ويقال‏:‏ لم يقضِ الله له ما أمره به، ولو قضى عليه وله ما أمره به لَمَا عصاه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتّنَا فِيهَا حَبّاً وعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْبَاً‏}‏‏.‏

في الإشارة‏:‏ صَبَبْنا ماءَ الرحمةِ على القلوب القاسية فَلانَتْ للتوبة، وصببنا ماءَ التعريف على القلوب فنبتت أزهارُ التوحيد وأنوارُ التجريد‏.‏

‏{‏وَقَضْباً‏}‏ أي القَتّ‏.‏

‏{‏وَحَدَآئِقَ غُلْباً‏}‏ متكاثفةً غلاظاً‏.‏

‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبّاً‏}‏‏.‏

الفاكهة‏:‏ جمع الفواكه، و‏{‏وَأَبّاً‏}‏‏:‏ المرعى‏.‏

‏{‏مَّتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ‏}‏ أي‏:‏ القيامة؛ فيومئذٍ يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، ثم بيَّن ما سبب ذلك فقال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 42‏]‏

‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏‏.‏

لا يتفرَّغ إلى ذاك، ولا ذاك إلى هذه‏.‏ كذلك قالوا‏:‏ الاستقامةُ أَنْ تشهدَ الوقتَ قيامةً، فما من وليٍّ ولا عارفٍ إلاَّ وهو- اليومَ- بقلبه يَفِرُّ من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه‏.‏

فالعارفُ مع الخَلْق ولكنه يُفَارقهم بقلبه- قالوا‏:‏

فلقد جعلتك في الفؤادِ مُحَدِّثي *** وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جلوسي

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ‏}‏‏.‏

وسببُ استبشارهم مختلفٌ؛ فمنهم مَنْ استبشاره لوصوله إلى جنَّته، ومنهم لوصوله إلى الحور العين من حظيته *** ومنهم ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إِلى ربِّه فرآه‏.‏

‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرةُ‏}‏‏.‏

وهي غَبَرةُ الفُسَّاق‏.‏ ‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏‏.‏ وهي ذُلُّ الحجاب‏.‏

سورة التكوير

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏‏.‏

ذَهَبَ ضَوْؤُها‏.‏

‏{‏وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ‏}‏‏.‏

تناثرت وسقطت عَلَى الأرض‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ‏}‏‏.‏

أُزِيلَتْ عنها مناكبُها‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ‏}‏‏.‏

وهي النُّوق الحواملُ التي أتى حَمْلُها عَشْرَةَ أشهر *** أهملت في ذلك اليوم لشدة أهواله، ‏(‏واشتغال الناس بأنفسهم عنها‏)‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ‏}‏‏.‏

أُحْيِيَتْ، وجُمِعَتْ في القيامة لِيُقْتَصَّ لبعضها من بعض؛ فيقتصّ للجّماء من القَرْناء- وهذا على جهة ضَرْبِ المثل؛ إذ لا تكليف عليها‏.‏

ولا يبعد أن يكون بإيصال منافع إلى ما وصل إليه ألالم- اليومَ- على العِوَضِ‏.‏‏.‏ جوازاً لا وجوباً على ما قالَه أهلُ البِدَع‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ‏}‏‏.‏

أُوقدت- مِنْ سَجَرْتُ التنور أُسْجُرُه سَجْراً، أي‏:‏ أَحْمَيْتُه‏.‏

‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ‏}‏‏.‏

بالأزواج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 20‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ‏(‏14‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ‏(‏15‏)‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏(‏17‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏19‏)‏ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا المَوْءُدَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ‏}‏‏.‏

نُشِرَتْ، أي‏:‏ بُسِطَت‏.‏

‏{‏وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَت‏}‏‏.‏

أي‏:‏ نُزِعَتْ وطُوِيَتْ‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ‏}‏‏.‏

أُوقِدَت‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ قُرِّبَتْ من المتقين‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ‏}‏‏.‏

هو جوابٌ لهذاه الأشياء، وهذه الأشياء تحصل عند قيام القيامة‏.‏

وفي قيام هذه الطائفة ‏(‏يقصد الصوفية‏)‏ عند استيلاء هذه الأحوال عليهم، وتجلِّي هذه المعاني لقلوبهم توجد هذه الأشياء‏.‏

فمن اختلاف أحوالهم‏:‏ أنَّ لشموسهم في بعض الأحيان كسوفاً وذلك عندما يُرَدُّون‏.‏

ونجومُ علومِهم قد تنكدر لاستيلاء الهوى على المريدين في بعض الأحوال، فعند ذلك ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلآَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجِوَارِ الْكُنَّسِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أُقْسِمُ، والخُنَّس والكُنَّس هي النجوم إذا غربت‏.‏

ويقال‏:‏ البقر الوحشي‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏‏.‏

عسعس‏.‏ أي جاءَ وأقبل‏.‏ ‏{‏نَفْسٌ‏}‏‏:‏ خرج من جوف الليلِ‏.‏

أقسم بهذه الأشياء، وجواب القسم‏:‏

‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏‏.‏

إن هذا القرآنَ لقولُ رسولٍ كريمٍ، يعني به جبريل عليه السلام‏.‏

‏{‏ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ‏}‏‏.‏

‏{‏مَكِينٍ‏}‏ من المكانة، وقد بلغ من قوته أنه قلع قرية آلِ لوطٍ وقلَبَها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ‏(‏23‏)‏ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ‏}‏‏.‏

وهذا أيضاً من جواب القَسَم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ‏}‏‏.‏

رأى محمدٌ جبريلَ عليه السلام بالأفق المبين ليلةَ المعراج‏.‏

ويقال‏:‏ رأى ربَّه وكان صلى الله عليه وسلم بالأفق المبين‏.‏

‏{‏وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ‏}‏‏.‏

بمُتَّهَمٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ‏(‏26‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏27‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏(‏28‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏‏.‏

إلى متى تتطوحون في أودية الظنون والحسبان‏؟‏

وإلى أين تذهبون عن شهود مواضع الحقيقة‏؟‏

وهلاَّ رجعتم إلى مولاكم فيما سَرَّكم أو أساءَكم‏؟‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏‏.‏

ما هذا القرآن إِلاَّ ذكرى ‏{‏لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ *** وقد مضى القولُ في الاستقامة‏.‏

‏{‏وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

أَنْ يشاؤوا‏.‏

سورة الانفطار

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ انشقت‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ‏}‏‏.‏

تساقطت وتهافتت‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ فُتِحَ بعضها على بعض‏.‏

‏{‏وَإِذَا الْقبُورُ بُعْثِرَتْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ قُلِبَ ترابُها، وبُعِثَ الموتى الذين فيها، وأُخْرِجَ ما فيها من كنوزٍ وموتى‏.‏

‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ‏}‏‏.‏

جوابٌ لهذه الأمور؛ أي إذا كانت هذه الأشياء‏:‏ عَلِمَتْ كلُّ نَفْس ما قدَّمت من خيرها وشَرَّها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ما خَدعَكَ وما سَوَّل لَكَ حتى عَمِلْتَ بمعاصيه‏؟‏

ويقال‏:‏ سَأَلَه وكأنما في نَفْسِ السؤال لقَّنَه الجوابَ يقول‏:‏ غَرَّني كَرَمُكَ بي، ولولا كََرَمُكَ لَمَا فَعَلْتُ؛ لأنَّك رأيت فَسَتَرْتَ، وقدّرْتَ فَأمْهَلْتَ‏.‏

ويقال‏:‏ إن المؤمِنَ وثِقَ بِحُسْنِ إفضالِه فاغتَّر بطولِ إمهالهِ فلم يرتكبْ الزلَّة لاستحاله، ولكنَّ طولَ حِلمه عنه حَمَله على سوء خصالِه، وكما قلت‏:‏

يقول مولاي‏:‏ أمَا تستحي *** مما أرى من سوء أفعالِكَ

قلت‏:‏ يا مولاي رفقاً فقد *** جَرَّأني كثرةُ أفضالِك

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ركَّبَ أعضاءَك على الوجوه الحكميَّة ‏{‏فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ‏}‏، من الحُسْنِ والقُبْح، والطولِ والقِصَر‏.‏ ويصح أن تكون الصورة هنا بمعنى الصِّفة، و«في» بمعنى «على»؛ فيكون معناه‏:‏ على أي صفة شاء ركَّبَكَ؛ من السعادة أو الشقاوة، والإيمان أو المعصية‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 17‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالِّديِنِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ القيامة‏.‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

هم الملائكة الذين يكتبون الأعمال‏.‏ وقد خوَّفهم برؤية الملائكة وكتابتهم الأعمال لتقاصر حشمتهم من اطّلاع الحق ولو علموا ذلك حقَّ العلم لكانَ توقيِّهم عن المخالفاتِ لرؤيته- سبحانه، واستحياؤهم من اطلاّعه- أتَمَّ من رُؤية الملائكة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ‏}‏‏.‏

‏{‏الأَبْرَارَ‏}‏‏:‏ هم المؤمنون؛ اليومَ في نعمة العصمة، وغداً هم في الكرامة والنعمة ‏{‏الْفُجَّارَ‏}‏‏:‏ اليومَ في جهنم باستحقاق اللعنة والإصرار على الشِّرْكِ الموجِبِ للفُرقة، وغداً في النار على وجه التخليد والتأييد‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ‏}‏‏.‏ في رَوْحِ الذَّكْر، وفي الأُنْسِ‏.‏ في أوان خَلْوَتهم‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ‏}‏‏.‏ في ضيق قلوبهم وتَسَخُّطِهم على التقدير، وفي ظُلُمات تدبيرهم، وضيق اختيارهم‏.‏

‏{‏يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ أي النار‏.‏ ‏{‏يَوْمَ الدِّينِ‏}‏‏.‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏وَمَا هُمْ عَنْهَا‏}‏ عن النار‏.‏ ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ‏}‏ قالها على جهة التهويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

الأمر لله يومئذٍ، ولله من قبله ومن بعده، ولكن ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ تنقطع الدعاوَى، إذ يتضح الأمرُ وتصير المعارفُ ضرورية‏.‏

سورة المطففين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏

‏{‏وَيْلٌ‏}‏‏:‏ الويلُ كلمةٌ تُذْكَر عند وقوع البلاء، فيقال‏:‏ ويلٌ لك، وويلٌ عليك‏!‏ و«المطفّف»، الذي يُنْقِصُ الكيْلَ والوزنَ، وأراد بهذا الذين يعامِلون الناس فإذا أخذوا لأنفسهم استوفوا، وإذا دفعوا إِلى من يعاملهم نقصوا، ويتجلَّى ذلك في‏:‏ الوزن والكيْلِ، وفي إظهار العيب، وفي القضاء والأداء والاقتضاءْ؛ فَمَنْ لم يَرْضَ لأخيه المسلم ما لا يرضاه لنفسه فيس بمنصف‏.‏ وأمَّا الصِّدِّيقون فإنهم كما ينظرون للمسلمين فإنهم ينظرون لكلِّ مَنْ لهم معهم معاملة- والصدقُ عزيزٌ، وكذلك أحوالهم في الصُّحْبَةِ والمعاشرة *** فالذي يرى عَيْبَ الناسِ ولا يرى عيبَ نَفْسِه فهو من هذه الجملة- جملة المطففين- كما قيل‏:‏

وتُبْصِرُ في العينِ منِّي القَذَى *** وفي عينِكَ الجذْعَ لا تُبْصِرُ

ومَنْ اقتضى حقَّ نَفْسه- دون أن يَقْضِيَ حقوق غيره مثلما يقتضيها لنفسه- فهو من جملة المطففين‏.‏

والفتى مَنْ يقضي حقوق الناس ولا يقتضي من أحدٍ لنفسه حقّاً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ألا يستيقن هؤلاء أنهم مُحَاسَبون غداً، وأنهم مُطَالَبون بحقوق الناس‏؟‏‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ لم يَذْكُرْ- في حال معاملةِ الناسِ- معاينة القيامة ومحاسبتها فهو في خسرانٍ في معاملته‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ كان صاحبَ مراقبة لله ربِّ العالَمين استشعر الهيبةَ في عاجِلِهِ، كما يكون حالُ الناسِ في المحشر؛ لأنَّ اطلاعَ الحقِّ اليومَ كاطلاعه غداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 12‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَلآَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَآ أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ‏؟‏ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏‏.‏

‏{‏سِجِّينٍ‏}‏ قيل‏:‏ هي الأرض السابعة، وهي الأرض السفلى، يُوضَع كتابُ أعمالِ الكفار هنالك إِذلالاً لهم وإهانة، ثم تُحْمَلُ أرواحُهم إلى ما هنالك‏.‏

ويقال‏:‏ «السِّجين» جُبٌّ في جهنم‏.‏ وقيل‏:‏ صخرةٌ في الأرض السفلى، وفي اللغة السِّجين‏:‏ فعيلٌ من السجن‏.‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ‏}‏‏.‏ استفهامٌ على جهة التهويل‏.‏

‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏‏.‏ أي مكتوب؛ كَتَبَ اللَّهُ فيه ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون‏.‏ وإنما المكتوبُ على بني آدم في الخير والشر، والشقاوة والسعادة فهو على ما تعلَّق به علمه وإرادته، وإنما أخبر على الوجه الذي علم أن يكون أو لا يكون، وكما علم أنه يكون أو لا يكون أراد أن يكون أو لا يكون‏.‏ ثم إنه سبحانه لم يُطْلِعْ أحداً على أسرار خَلْقِه إلاَّ مَنْ شاءَ من المقربين بالقَدْرِ الذي أراده؛ فإنه يُجرِي عليهم في دائم أوقاتهم ما سَبَقَ لهم به التقدير‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏‏.‏

ويلٌ للذين لا يُصَدِّقون بيوم الدين، وما يُكذِّبُ به إلا كل مُجَاوِزٍ للحَدِّ الذي وُضِعَ له؛ إذا يُتْلَى عليه القرآن كَفَرَ به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أي‏:‏ غَطَّى على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي *** وكما أنهم- اليومَ- ممنوعون عن معرفته فهم غداً ممنوعون عن رؤيته‏.‏ ودليلُ الخطابِ يوجِبُ أن يكونَ المؤمنون يََرَوْنَه غداً كما يعرفونه اليوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏عِلِّيِّينَ‏}‏ أعلى الأمكنة، تحمل إليه أرواح الأبرار تشريفاً لهم وإجلالاً‏.‏

ويقال‏:‏ إنها سِدْرة المنتهى‏.‏ ويقال‏:‏ فوق السماء السابعة‏.‏ كتابٌ مرقوم فيه أعمالهم مكتوبة يشهده المقربون من الملائكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ لَفى نَعِيمٍ‏}‏‏.‏

اليومَ وغداً‏:‏ اليومَ في رَوْحٍ العرفان، وراحةِ الطاعة والإحسان، ونعمةِ الرضا وأُنْسِ القُربة وبَسْطِ الوصلة‏.‏ وغداً- في الجنة وما وُعِدوا به من فنون الزلفة والقربة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ‏}‏‏.‏

أثْبَتَ النظرَ ولم يُبَيَّنْ المنظور إليه لاختلافهم في أحوالهم؛ فمنهم من ينظر إلى قُصُوره‏.‏ ومنهم من ينظر إلى حُرِه، ومنهم ومنهم *** ومنهم الخواصُّ فهم على دوامِ الأوقات إلى الله- سبحانه- يَنْظُرون‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

مَنْ نظر إليهم عَلِمَ أنَّ أثََرَ نَظَرِه إلى مولاه ما يلوح على وجه من النعيم؛ فأحوال المحبِّ شهودٌ عليه أبداً‏.‏ فإنْ كان الوقتُ وقتَ وصالٍ فاختيالُه ودلالُه، وسرورُه وحبورُه، ونشاطُه ونبساطُه‏.‏ وإِنْ كان الوقتُ وقتَ غيبةٍ وفراق فالشهودُ عليه نحولُه وذبولُه، وحنينُه، ودموعُه وهجوعُه *** وفي معناه قلت‏:‏

يا مَنْ تَغَيُّرُ صورتي لَمَّا بدا‏.‏‏.‏‏.‏- لجميع ما ظنوا بنا- تحقيقُ

وقلت‏:‏

ولمَّا أتَى الواشين أنِّي زُرْتُها *** جَحَدُتُ حذاراً أنْ تَشِيعَ السرائرُ

فقالوا‏:‏ نرى في وجهِك اليومَ نضرةً *** كَسَتْ مُحيَّاك‏.‏‏.‏ وهاذاك ظاهِرُ‏!‏

وبُرْدُكَ لا ذاك الذي كان قبلَه *** به طِيبُ نَشْرٍ لم تُشِعْهُ المجامِرُ

فما كان منِّي من بيانٍ أُقيمه *** وهيهات أن يخفي مُريبٌ مساتِرُ‏!‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يُسْقُوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَّخْتُومٍ‏}‏ أي رحيقٌ لا غِشَّ فيه‏.‏

ويقال‏:‏ عتيقٌ طَيِّبٌ‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم يشربون شراباً آخره مِسْكٌ‏.‏

ويقال‏:‏ بل هو مختومٌ قبل حضورهم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏خِتَامُهُ مِسْكٌ‏}‏‏.‏ ممنوعٌ من كلِّ أحدٍ، مُعَدٌّ مُدَّخَرٌ لكلِّ أحدٍ باسمه‏.‏

‏{‏وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏‏.‏ وتنافُسُهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، والسباقُ إلى القُرْب، وتعليقُ القلبِ بالله، والانسلاخُ عن الاخلاقِ الدَّنِيَّة، وجَوَلاَنُ الهِمَمِ في الملكوت، واستدامةُ المناجاة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏تَسْنِيمٍ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ عينٌ تسَنَّمُ عليهم من عُلُوٍّ‏.‏

وقيل‏:‏ ميزابٌ يَنْصَبُّ عليهم من فوقهم‏.‏

ويقال‏:‏ سُمِّي تسنيماً؛ لأن ماءَه يجري في الهواء مُتَسَنِّماً فينصبُّ في أواني أهل الجنة؛ فمنهم مَنْ يُسْقَى مَزْجاً، ومنهم مَنْ يُسْقى صِرْفاً *** الأولياء يُسْقَون مزجاً، والخواصُ يُسْقَون صِرْفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

كانوا يضحكون استهزاءً بهم ‏{‏فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ‏}‏ ‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏هل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ استفهام يراد منه التقرير‏.‏

ويقال‏:‏ إذا رأوا أهلَ النارَ يُعذَّبون لا تأخذهم بهم رأْفة، ولا تَرِقُّ لهم قلوبُهم، بل يضحكون ويستهزئون ويُعَيِّرونهم‏.‏

سورة الانشقاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏1‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ‏}‏‏.‏

‏{‏انشَقَتْ‏}‏‏:‏ انصدعت‏.‏

‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏‏.‏

أي قابَلَتْ أمرَ ربِّها بالسمع والطاعة *** وحقَّ لها أن تفعل ذلك‏.‏

‏{‏وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ‏}‏‏.‏

بُسِطَت بانكدار آكامها وجبالِها حتى صارت ملساء، وألقت ما فيها من الموتى والكنوز وتخلَّت عنها *** وقابلت أمر ربها بالسمع والطاعة‏.‏

وجواب هذه الأشياء في قوله‏:‏ ‏{‏فَمُلاَقِيهِ‏}‏ أي يَلْقَى الإنسانُ ما يستحقه على أعماله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ‏(‏6‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ‏(‏7‏)‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ياأيها الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ‏}‏‏.‏

‏{‏ياأيها الإِنسَانُ‏}‏‏:‏ يأيها المُكلَّفُ *** إنَّك ساعٍ بما لَكَ سَعْياً ستلقى جزاءَه؛ بالخير خيراً وبالشَّرِّ شَرّاً‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ‏}‏‏.‏

وهو المؤمن المحسن‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً‏}‏‏.‏

أي حساباً لا مَشقَّة فيه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏حِسَاباً يَسِيراً‏}‏ أي يُسْمِعُه كلامَه- سبحانه- بلا واسطة، فيُخَفِّفُ سماعُ خطابِه ما في الحساب من عناءٍ‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏حِسَاباً يَسِيراً‏}‏‏:‏ لا يُذَكِّرُه ذنوبَه‏.‏ ويقال‏:‏ ألم أفعل كذا‏؟‏ وألم أفعل كذا‏؟‏ يعُدُّ عليه إحسانَه *** ولا يقول‏:‏ ألم تفعل كذا‏؟‏ لا يُذكِّرُه عصيانَه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ‏(‏10‏)‏ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ‏(‏11‏)‏ وَيَصْلَى سَعِيرًا ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏13‏)‏ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً‏}‏‏.‏

أي بالنجاة والدرجات، وما وَجَدَ من المناجاة، وقبول الطاعات، وغفران الزَّلاّت‏.‏

ويقال‏:‏ بأن يُشفِّعَه فيمن يتعلَّق به قلبُه‏.‏ ويقال‏:‏ بألا يفضحه‏.‏

ويقال‏:‏ بأن يَلْقى ربَّه ويُكَلِّمَه قبل أَنْ يُدْخِلَه الجنة فيَلْقى حَظِيَّتَه من الحورِ العين‏.‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ‏}‏‏.‏

وهو الكافر‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً‏}‏‏.‏

أي وَيْلاً‏.‏

‏{‏وَيَصْلَى سَعِيراً‏}‏‏.‏

جهنم‏.‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً‏}‏‏.‏

من البَطَرِ والمدح‏.‏

‏{‏إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ‏}‏‏.‏

أنه لن يرجعَ إلينا، ولن يُبْعَثَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏(‏17‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلآَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ‏}‏‏.‏

بالحُمْرَةِ التي تعقب غروبَ الشمس‏.‏

‏{‏وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏}‏‏.‏

وما جَمَعَ وضمَّ‏.‏

‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ‏}‏‏.‏

تَمَّ واستوى واجتمع‏.‏

ويقال‏:‏ الشَّفَقُ حين غربت شمسُ وصالهم، وأُذيقوا الفراقَ في بعض أحوالهم، وذلك زمانُ قبضٍ بعد بَسْطٍ، وأوانُ فَرْقٍ عُقَيْبَ جَمْعٍ‏.‏ ‏{‏وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ‏}‏‏:‏ ليالي غيبتهم وهم بوصف الاستياقِ؛ أو ليالي وصالهم وهم في روح التلاقي، أو ليالي طَلَبِهم وهم بنعتِ القَلَبِ والاحتراقِ‏.‏

‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ‏}‏‏:‏ إذا ظَهَرَ سلطانُ العرفان على القلوب فلا بَخْسَ ولا نُقْصان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ‏(‏19‏)‏ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ‏(‏22‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ‏(‏23‏)‏ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏24‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ‏}‏‏.‏

أي حالاً بعد حال‏.‏ وقيل‏:‏ من أطباق السماء‏.‏ ويقال‏:‏ شِدَّةً بعد شدَّة‏.‏

ويقال‏:‏ تاراتُ الإنسانِ طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً‏.‏

ويقال‏:‏ طالباً ثم واصلاً ثم مُتَّصِلاً‏.‏

ويقال‏:‏ حالاً بعد حالٍ، من الفقر والغِنَى، والصحة والسَقّم‏.‏

ويقال‏:‏ حالاً بعد حالٍ في الآخرة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

أي فما الكُّفَّارِ أُمَّتِكَ لا يُصَدِّقون *** وقد ظهرت البراهين‏؟‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏يُوعُونَ‏}‏ أي تنطوي عليه قلوبُهم- من أَوْعَيْتُ المتاعَ في الظَّرْفِ أي جعلته فيه‏.‏

‏{‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لُهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونِ‏}‏‏.‏

‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏ فإنهم ليسوا منهم، ولهم أجرٌ غيرُ مقطوع‏.‏

سورة البروج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَآءِ ذَاتِ البُرُوجِ‏}‏‏.‏

أراد البروج الاثني عشر‏.‏

‏{‏وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ‏}‏‏.‏

يوم القيامة‏.‏

وجوابُ القَسَم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏‏.‏

يقال‏:‏ الشاهدُ اللَّهُ، والمشهودُ الخَلْقُ‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ الخَلْقُ، والمشهودُ اللَّهُ؛ يشهدونه اليومَ بقلوبهم، وغداً بأبصارهم‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والمشهودُ القيامة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلآَءِ شَهِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏، وقال في القيامة‏:‏ ‏{‏ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ الشاهد يومُ الجمعة، والمشهود يومُ عَرَفة‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ المَلَكُ الذي يكتب العمل، والشاهدُ الإنسانُ يشهد على نفسه، وأعضاؤه تشهد عليه؛ فهو شاهد وهو مشهود‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ يومُ القيامة، والمشهودُ الناس‏.‏

ويقال‏:‏ المشهودُ هم الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم يشهد لهم وعليهم‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ هذه الأمة، والمشهودُ سائر الامم‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ الحجرُ الأسود لأنَّ فيه كتابَ العهد‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ جميعُ الخَلْق؛ يشهدون لله بالوحدانية، والمشهود الله‏.‏

ويقال‏:‏ الشاهدُ الله؛ شهد لنفسه بالوحدانية، والمشهودُ هو لأنه شهد لنفسه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أي لُعِنوا‏.‏ والأخدودُ‏:‏ الحُفْرةُ في الأرض إِذا كانت مستطيلةً، وقصتهم في التفسير معلومة و«الوقود» الحطب‏.‏

وهم أقوامٌ كتموا إيمانَهم فلمَّا عَلِمَ مَلِكُهم بذلك أضرم عليهم ناراً عظيمة، وألقاهم فيها‏.‏ وآخِرُ مَنْ دَخَلَها امرأةٌ كان معها رضيعٌ، وهَمَّت أن ترجع، فقال لها الولد‏:‏ قِفي واصبري *** فأنت على الحقِّ‏.‏

وألقوها في النار، واقتحمتها، وبينا كان أصحابُ الملك قعوداً حوله يشهدون ما يحدث ارتفعت النارُ من الأخدود وأحرقتهم جميعاً، ونجا من كان في النار من المؤمنين وسَلِموا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلآَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

ما غَضبوا منهم إلاَّ لإيمانهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏‏.‏

أي أحرقوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا عن كفرهم ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏}‏‏:‏ نوعٌ من العذاب، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏‏:‏ نوع آخر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏‏:‏ النجاة العظيمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏‏.‏

البطشُ الأخذ بالشدة‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبِدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏‏.‏

يُبدئُ الخَلْق ثم يُعيدُهم بعد البعث‏.‏

ويقال‏:‏ يبدئ بالعذاب ثم يُعيد، وبالثواب ثم يُعيد‏.‏

ويقال‏:‏ يبدئ على حُكْم العداوة والشقاوة ثم يعيد عليه، ويبدئ على الضعف ويعيدهم إلى الضعف‏.‏

ويقال‏:‏ يبدي الأحوال السَّنيَّة فإِذا وقعت حجبة يعيد ثانية‏.‏

ويقال‏:‏ يبدي بالخذلان أموراً قبيحة ثم يتوب عليه، فإذا نَقَضَ توبتَه فلأَنه أعاد له من مقتضى الخذلان ما أجراه في أول حاله‏.‏

ويقال‏:‏ يبدي لطائفَ تعريفه ثم يعيد لتبقى تلك الأنوار أبداً لائحةً، فلا يزال يبدي ويعيد إلى آخر العمر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ‏}‏‏.‏

«الغفور» كثيرُ المغفرة، «الودود» مبالغة من الوَادِّ، ويكون بمعنى المودود؛ فهو يغفر له كثيراً لأنه يَوَدُّهم، ويغفرُ لهم كثيراُ لأنهم يودُّنه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ‏}‏‏.‏

ذو المُلْكِ الرفيع، والمَجْد الشريف‏.‏

‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏

لأنه مالِكٌ على الإطلاق؛ فلا حَجْر عليه ولا حَظْرَ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ‏}‏‏.‏

الجموع من الكفار‏.‏

‏{‏فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ‏}‏‏.‏

وقد تقدم ذكر شأنهما‏.‏

‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني مُشْرِكي مكة؛ ‏{‏فِى تَكْذِيبٍ‏}‏ للبعث والنشر‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُ‏}‏‏.‏

عالمٌ بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ‏}‏ مكتوبٍ فيه‏.‏ وجاء في التفسير‏:‏ أنَّ اللوحَ المحفوظ خُلِقَ من دُرَّةٍ بيضاء، دِفَّتَاه من ياقوته حمراء عَرْضُها بين السماء والأَرض، وأعلاه متعلِّقٌ بالعرش، وأسفله في حِجْرِ مَلَكٍ كريم‏.‏

والقرآن كما هو محفوظ في اللوح كذلك محفوظ في قلوب المؤمنين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 49‏]‏ فهو في اللوح مكتوبٌ، وفي القلوبِ محفوظٌ‏.‏

سورة الطارق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ‏}‏‏.‏

أقسم بالسماءِ، وبالنجمِ الذي يَطْرُق ليلاً‏.‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ‏}‏‏.‏

استفهامٌ يراد منه تفخيم شأن هذا النجم‏.‏

‏{‏النَّجْمُ الثَّاقِبُ‏}‏‏.‏

المضيءُ العالي‏.‏ وقيل‏:‏ الذي ترمى به الشياطين‏.‏

ويقال‏:‏ هي نجوم المعرفة التي تدل على التوحيد يستضيءُ بنورها ويهتدي بها أولو البصائر‏.‏

‏{‏إِن كُلُّ نَفْسِ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏‏.‏

ما مِنْ نَفْسٍ إلا عليها حافِظٌ من الملائكة، يحفظ عملَه ورزقَه وأجلَه، ويحمله على دوامِ التيقُّظ وجميلِ التحفُّظ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ‏}‏‏.‏

يخرج من صُلْبِ الأب، وتربيةِ الأم‏.‏

وهو بذلك يحثُّه على النَّظَرِ والاستدلال حتى يعرف كمال قدرته وعلمه وإرادته- سبحانه‏.‏

‏{‏إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ‏}‏‏.‏

إنه على بَعْثِه، وخَلْقِه مرةً أخرى لقادِرٌ؛ لأنه قادر على الكمال- والقدرةُ على الشيءِ تقتضي القدرةَ على مِثْلِه، والإعادة في معنى الابتداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 17‏]‏

‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ‏}‏‏.‏

يوم تُمْتَحنُ الضمائر‏.‏

‏{‏فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ‏}‏‏.‏

أي ما لهذا الإنسان- يومئذٍ- من مُعينٍ يدفع عنه حُكْمَ الله‏.‏

‏{‏وَالسَّمآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ‏}‏‏.‏

أي المطر‏.‏

‏{‏وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ‏}‏‏.‏

«الصدع»‏:‏ الانشقاقُ بالنباتِ للزرع والشجر‏.‏

‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ إن القرآن لقولٌ جَزْمٌ‏.‏

‏{‏وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ‏}‏‏.‏

الهزل ضد الجِدّ، فليس القرآنُ بباطلٍ ولا لَعِب‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً‏}‏‏.‏

أي يحتالون حيلةً‏.‏

‏{‏وَأَكِيدُ كَيْداً‏}‏‏.‏

هم يحتالون حيلةً، ونحن نُحْكِمُ فِعْلاً ونُبْرِمُ خَلْقاً، ونجازيهم على كيدهم، بما نعاملهم به من الاستدراج والإمهال‏.‏

‏{‏فَمِهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَا‏}‏‏.‏

أي أَنظِرهم، وأمهِلهم قليلاً، وأرْوِدْهم رويداً‏.‏

سورة الأعلى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏‏.‏

أي سَبِّحْ ربَّك بمعرفة أسمائه، واسبح بسِرِّك في بحار علائه، واستخرِجْ من جواهر عُلوِّه وسنائه ما ترصِّعُ به عِقْدَ مَدْحِه وثنائه‏.‏

‏{‏الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى‏}‏‏.‏

خَلق كلَّ ذي روح فسوَّى أجزاءَه، ورَكَّبَ أعضاءَه على ما خَصّه به من النظم العجيب والتركيب البديع‏.‏

‏{‏وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏‏.‏

أي قدَّر ما خَلَقَه، فجَعَلَه على مقدار ما أراده، وهدى كلَّ حيوانٍ إلى ما فيه رشده من المنافع، فيأخذ ما يُصْلِحه ويترك ما يضره- بحُكم الإلهام‏.‏

ويقال‏:‏ هَدَى قلوبَ الغافلين إلى طلب الدنيا فعمروها، وهدى قلوبَ العابدين إلى طلب العقبى فآثروها، وهدى قلوبَ الزاهدين إلى فناء الدنيا فرفضوها، وهدى قلوبَ العلماءِ إلى النظر في آياته والاستدلال بمصنوعاته فعرفوا تلك الآيات ولازموها‏.‏

وهدى قلوبَ المريدين إلى عِزِّ وَصْفِه فآثروه، واستفرغوا جُهْدَهم فطلبوه، وهدى العارفين إلى قُدْس نعتِه فراقبوه ثم شاهدوه، وهدى الموحِّدين إلى علاء سلطانه في تحد كبريائه فتركوا ما سواه وهجروه، وخرجوا عن كلِّ مألوفٍ لهم ومعهود حتى قصدوه‏.‏ فلمّا ارتقوا عن حدِّ البرهان ثم عن حدِّ البيان ثم عمَّا كالعيان عَلِموا أنَّه عزيزٌ، وأنَّه وراءَ كلِّ فَصْلٍ ووَصْلٍ، فرجعوا إلى مواطنِ العَجْزِ فتوسَّدوه‏.‏

‏{‏وَالَّّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى‏}‏‏.‏

أي النبات‏.‏

‏{‏فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى‏}‏‏.‏

جعله هشيماً كالغثاء، وهو الذي يقذفه السيل‏.‏ و«أحوى» أسود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى‏}‏‏.‏

سنجمع القرآن في قلبك- يا محمد- حِفْظاً حتى لا تنسى لأنا نحفظه عليك‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى‏}‏‏.‏

مما لا يدخل تحت التكليف فتنساه قبل التبليغ ولم يجب عليه أداؤه‏.‏

وهو- سبحانه- يعلم السِّرَّ والعَلَن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 19‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏‏.‏

والذِّكرى تنفع لا محالة، ولكنْ لِمَنْ وَفَّقَه اللَّهُ للإتعاظِ بها، أمَّا مَنْ كان المعلومُ من حاله الكفرَ والإعراضَ فهو كما قيل‏:‏

وما انتافعُ أخي الدنيا بِمُقْلَتهِ *** إذا استوَتْ عنده الأنوارُ والظُّلَمُ

‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏}‏‏.‏

الذي يخشى الله ويخشى عقوبته‏.‏

‏{‏وَيَتَجَنًَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى‏}‏‏.‏

أي يتجنَّبُ الذَّكْرَ الأشَقى الذي يَصْلَى النارَ الكبرى، ثم لا يموت فيها موتاً يريحه، ولا يحيا حياةً تَلَذُّ له‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى‏}‏‏.‏

مَنْ تَطَهَّرَ من الذنوبِ والعيوبِ، ومشاهدة الخَلْقِ وأدَّى الزكاة- وَجَدَ النجاة، والظَّفَرَ بالْبُغْيَة، والفَوزَ بالطِّلبة‏.‏

‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏‏.‏

ذَكَرَ اسمَ ربِّه في صلاته‏.‏ ويقال‏:‏ ذَكَره بالوحدانية وصَلَّى له‏.‏

‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏‏.‏

تميلون إليها؛ فتُقَدِّمون حظوظكم منها على حقوق الله تعالى‏.‏

‏{‏وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقَى‏}‏‏.‏

والآخرة للمؤمنين خيرٌ وأبقَى- من الدنيا- لطُلاّبها‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏‏.‏

إن هذا الوعظَ لفي الصحف المتقدمة، وكذلك في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما؛ لأنَّ التوحيدَ، والوعدَ والوعيدَ *** لا تختلف باختلاف الشرائع‏.‏

سورة الغاشية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيِثُ الغَاشِيَةِ‏}‏‏.‏

«الغاشية» المُجَلَّلَةُ، يريد بها القيامة تَغْشَى الخَلْقَ، تَغْشَى وجوهَ الكفَّار ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلى نَاراً حَامِيةً‏}‏‏.‏

وجوهٌ- إذا جاءت القيامة- خاشعة أي ذليلة‏.‏ عاملة ناصبة‏:‏ النَّصَب التعب‏.‏

جاء في التفسير‏:‏ أنهم يُجَرُّون على وجوههم‏.‏

‏{‏تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً‏}‏ تلزم ناراً شديدة الحرِّ‏.‏

ويقال‏:‏ «عاملة» في الدنيا بالمعاصي، «ناصبة» في الآخرة بالعذاب‏.‏

ويقال‏:‏ «ناصبة» في الدنيا «عاملة» لكن من غير إخلاص كعمل الرهبان، وفي معناه عملُ أهل النفاق‏.‏

‏{‏تُسْقَى مِنْ عِيْنٍ ءَانِيَةً‏}‏‏.‏

تناهى حَرُّها‏.‏

‏{‏لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ‏}‏‏.‏

نَبْتٌ ينمو بالحجاز له شَوْكٌ، وهو سمٌّ لا تأكله الدواب، فإذا أكلوا ذلك في النار يُغَصُّون، فَيُسْقَوْنَ الزقُّوم‏.‏

وإن اتصافَ الأبدانِ- اليومَ- بصورة الطاعات مع فَقْدِ الأرواح وجدانَ المكاشفات ‏(‏وفقدِ‏)‏ الأسرارِ أنوارَ المشاهدات، ‏(‏وفقدِ‏)‏ القلبِ الإخلاصَ والصدق في الاعتقادات لا يجدي خيراً، ولا ينفع شيئاً- وإنما هي كما قال‏:‏ ‏{‏عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 17‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ مُتَنَعِّمة، ذات نعمةٍ ونضارةٍ‏.‏

‏{‏لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ‏}‏‏.‏

حين وَجَدَتْ الثوابَ على سعيها، والقبول لها‏.‏

‏{‏فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏‏.‏

عالية في درجتها ومنزلتها وشرفها‏.‏ هم بأبدانهم في درجاتهم، ولكن بأرواحهم مع الله في عزيز مناجاتهم‏.‏

‏{‏لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً‏}‏‏.‏

لأنهم يسمعون بالله؛ فليس فيها كلمةُ لغوٍ‏.‏

قومٌ يسمعون بالله، وقومٌ يسمعون لله، وقومٌ يسمعون من الله، وفي الخبر‏:‏ «كنت له سمعاً وبصراً فبي يَسْمَعُ وبي يُبْصِرُ»

‏{‏فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ‏}‏‏.‏

أراد عيوناً؛ لأن العين اسم جنس، والعيون الجارية هنالك كثيرة ومختلفة‏.‏

ويقال‏:‏ تلك العيون الجارية غداً لِمَنْ له- اليومَ- عيونٌ جارية بالبكاء، وغداً لهم عيونٌ ناظرةٌ بحُكم اللقاء‏.‏

‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏‏.‏

النمارق المصفوفة في التفسير‏:‏ الطنافس المبسوطة‏.‏

الزرابي المبثوثة في التفسير‏:‏ البُسُط المتفرقة‏.‏

وإنما خاطبهم على مقادير فُهومهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏‏.‏

لمَّا ذَكَرَ وصفَ تلك السُّرُورِ المرفوعة المشيَّدة قالوا‏:‏ كيف يصعدها المؤمن‏؟‏ فقال‏:‏ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت‏؟‏ كيف إذا أرادوا الحَمْلَ عليها أو ركوبها تنزل‏؟‏ فكذلك تلك السُّرُرُ تتطامن حتى يركبها الوليُّ‏.‏

وإنما أنزلت هذه الآيات على وجه التنبيه، والاستدلال بالمخلوقات على كمال قدرته- سبحانه‏.‏

فالقومُ كانوا أصحابَ البوادي لا يرون شيئاً إلا السماءَ والأرضَ والجبالَ والجِمالَ *** فأَمَرهم بالنظر في هذه الأشياء‏.‏

وفي الإبل خصائص تدل على كمال قدرته وإنعامه جل شأنه؛ منها‏:‏ ما في إمكانهم من الانتفاع بظهورها للحَمْلِ والركوب، ثم بنَسْلِها، ثم بلحمها ولبنها ووَبَرِها *** ثم من سهولة تسخيرها لهم، حتى ليستطيع الصبيُّ أنْ يأخذَ بزِمامها، فتنجرّ وراءه‏.‏ والإبل تصبر على مقاساة العَطَش في الأسفار الطويلة، وهي تَقْوَى على أن تحمِلَ فوق ظهورها الكثير َ من الحَمولات *** ثم حِرَانُها إذا حقدت، واسترواحُها إلى صوتِ مَنْ يحدوها عند الإعياء والتعب، ثم ما يُعَلِّل المرءُ بما يناط بها من بِرِّها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‏}‏‏.‏

لستَ عليهم بمُسَلَّطٍ؛ فذَكِّر- يا محمد- بما أمرناك به، فبذلك أمرناك‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ‏}‏‏.‏

إلا مَنْ تَولَّى عن الإيمان وكفر فيعذبه اللَّهُ بالخلودِ في النار‏.‏

‏{‏إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم‏}‏‏.‏

إن إلينا رجوعَهم، ثم نجازيهم على الخير والشرِّ‏.‏